هذا المقال نقلا عن موقع جريدة المصرى اليوم هذا للأمانة العلمية تحت عنوان "فى مديح اعداء النجاح"
القصة الشهيرة التي يعرفها الكثيرون عن عميل المخابرات السوفيتية الذي جري القبض عليه، ولما قيل له: إننا لم نتمكن من معرفة جرائمك ولم نمسك عليك شيئاً محدداً، فماذا كنت تفعل كي ترضي مخابرات العدو، قال العميل قولته الشهيرة: لم أكن أفعل شيئاً كبيراً، فقط إذا طرح أمامي قرار لتعيين أحد الأشخاص في أي موقع كنت دائماً أختار الأسوأ!
القصة الشهيرة باتت تلح علي الكثير من الذين أعياهم: ما الذي يجري في مصر؟.. إن ما يجري في شأن التصعيد والتكبير لحفنة من الأقزام التافهين لم يعد يجد تفسيراً غير قصة المخابرات هذه، إنك لن تجد صعوبة في أن تعرف مقدماً نتائج السباق في أي منصب، إنه الأسوأ دون تفكير، إذا كان السباق بين الفاسد والأكثر فساداً فالغلبة للأفسد، وإذا كان السباق بين الجاهل والأكثر جهلاً فالغلبة للأجهل.. وحين يجيء الفاسد أو الجاهل فإنه يأتي بمن يكون إلي جوارهم أكثر خلقاً وعلماً.. فتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض!
حزب أعداء النجاح
المدهش حقا هو ما صرنا نسمعه في برامج عديدة ومقالات مديدة حول حزب أعداء النجاح، لقد استمعت مؤخراً إلي جاهل فاسد يحدثنا عن حزب أعداء النجاح، و كيف أن هذا الحزب بات كبيراً في مصر، وأن حزب أعداء النجاح لا يرحم أحداً ولا يترك ناجحاً إلا ونال منه، يا إلهي.. أهكذا تكون الأمور، صار هذا النموذج هو النجاح، وصار كل ناقد له هو معاد للنجاح، صار اللصوص علامة الإنجاز، وصار مناهضو اللصوص هم أعداء النجاح!
إن أعداء النجاح في هذه الحالة هم شرفاء مخلصون، وواجبهم ألا ينجح هؤلاء، مهمتهم إلحاق الفشل بهم أينما ثقفوا، وظيفتهم ألا يفرح الناجح بنجاحه، وألا يكمل هؤلاء الناجحون مسيرة الإنجاز!
إن تافهين لا قيمة لهم باتوا يكتبون في الصحف ويتصدرون ساحة الرأي والقرار، وتافهون آخرون باتوا يتصدرون العمل السياسي ناصحين ومرشدين ليل نهار.
وإذا جاء الشرفاء إلي موقع - بطريق الخطأ أو الصواب - ثم أرادوا وقف هؤلاء المنافقين فإنهم سرعان ما يصرخون: أو قفوا حزب أعداء النجاح!
إن الفساد والجهل في بلادنا بات إقطاعاً لا رأسمالاً، ليس وضعاً متحركاً يمكن القضاء عليه أو تقليل نفوذه بمعركة محدودة، بل هو إقطاع للأرض وما عليها، هو فساد عقارات لا منقولات.. ثابت راسخ آمن مطمئن!
والمعركة معه طويلة عسيرة، فالفساد يراكم ويبني ويتسع ويرتب أوضاعاً وحقائق لعينة، هب مثلاً أنك توليت رئاسة مؤسسة قد ضرب فيها الفساد طويلاً، ستجد حشداً من النواب والمساعدين وكبار المسؤولين وصغار النافذين ممن يصعب التعامل معهم. إن الإصلاح في هذه الحالة سيعني بالضرورة عدم الاستقرار، فالإصلاح معناه تغيير كل شيء.. وهو ما يعني تدمير كل شيء، يا للمفارقة.. الفساد يساوي الاستقرار والإصلاح يساوي عدم الاستقرار!
بل الكارثة التي ربما تلي المفارقة: ماذا لو تمكن الفاسدون من أن يهدموا كل البناء أثناء محاولات الترميم؟ ماذا لو قضوا علي المنزل بكامله إذا ما جري البدء بإصلاح دورة المياه؟!
هنا المعضلة، وبالنسبة لي شخصياً فقد تحدثت مع مسؤولين كبار في مؤسسات عدة.. وقلت ينبغي أن يكون التغيير والإصلاح أكثر وضوحاً وأمضي سرعة، وإلا فإن الفساد ينمو بمتوالية هندسية والإصلاح ينمو بمتوالية حسابية.. وهو ما يعني أن الفساد يمكنه أن يبتلع الإصلاح وهو نائم، وكان الرد دوماً:ينبغي أن نكون حذرين، فمثل هذه الطريقة ستؤدي إلي تقويض كل شيء، إن طبقة البيروقراطية والفساد أقوي مما تتخيل والتعامل معها تدريجياً وبلين هو الحل!
وتقديري أن هذا كلام فارغ، وأقتنع تماماً بأن الواجب الوطني لا ينبغي أن يضع في اعتباره لا المفارقة ولا الكارثة، تقديري أنها مذبحة إصلاح شامل وقاس وصارم.
لا ينبغي أن نلاحق الفساد والجهل موقعاً وراء الآخر وشخصاً وراء الآخر في سنوات وعقود .. ذلك أن القضاء علي الفساد المعاصر سيتطلب وقتاً يكون فيه جيل جديد من الفاسدين قد ظهر وجيل آخر من الفاسدين يستعد!
هي ضربة رجل واحد في وقت واحد وفي كل مكان، هي ثورة إصلاح عنيفة لا تهادن ولا تدلل ولا تربت علي الأكتاف.
أن تكون مستشاراً لجاهل
إن أكبر الجرائم التي تقع في بلادنا هي اختيار شخص جاهل لمنصب كبير، ثم القول بأنه لن يكون وحده فسوف نحيطه بعدد وفير من المستشارين والخبراء، لن نتركه يعمل وحده بل سيكون إلي جواره من يعمل ويساعد ويدعم، وأعود إلي تجربتي من جديد، فلكم اقتربت في حياتي من قيادات جاهلة، وكم بذلت جهداً خارقاً كمستشار وناصح، واليوم أعترف تماماً بأن هذا التفكير كان خطأ، فالقيادة الجاهلة إنما تستثمر ما نقول في أن تكرس من واقعها وتحصن من ثكناتها.. وأما نحن المستشارين فإنما نبدأ مخلصين قاصدين الإصلاح ما استطعنا وننتهي محبطين بعد أن بنينا للجهل صرحاً وألبسنا الفاسدين ثوباً واقياً!
أعترف الآن بأن أعظم المستشارين لا يمكنه أن يساعد مسؤولاً جاهلاً، وأشرف الناصحين لا يمكنه أن يقوّم مسؤولاً فاسداً.. كل عام والفساد بألف شر!